هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    البصرة... البندقية في الشرق مدينة الفراهيدي وسيبويه والسيّاب

    الدلوعه
    الدلوعه
    مؤسس الشبكه
    مؤسس الشبكه


    انثى
    عدد الرسائل : 2130
    تاريخ التسجيل : 28/06/2007

    البصرة... البندقية في الشرق مدينة الفراهيدي وسيبويه والسيّاب Empty البصرة... البندقية في الشرق مدينة الفراهيدي وسيبويه والسيّاب

    مُساهمة من طرف الدلوعه الثلاثاء أغسطس 07, 2007 12:57 am

    البصرة... البندقية في الشرق مدينة الفراهيدي وسيبويه والسيّاب

    الفنّان فيصل لعيبي لـ«المشاهد السياسي»:







    البصرة... البندقية في الشرق مدينة الفراهيدي وسيبويه والسيّاب P40iss594n15
    البصرة... البندقية في الشرق مدينة الفراهيدي وسيبويه والسيّاب P40iss594n5

    لندن ـ «المشاهد السياسي»
    يعدّ الفنّان التشكيلي العراقي الشهير فيصل لعيبي، أحد أبرز من عبّر عن يوميات مدينة البصرة، مسقط رأسه في أعماله، فحمل مؤثّراتها معه منذ هجرها في مطلع السبعينيات، إلى كل مكان حل ّ فيه في العالم: من فرنسا إلى إيطاليا، ومن الجزائر إلى هولندا فبريطانيا... في رحلة استغرقت نحو ثلاثين سنة.
    في هذا الحوار مع فيصل لعيبي، استعادة ليوميات مدينة البصرة وذكرياتها، بعدما هدم النظام السابق أكثر معالمها الأثرية، لتقضي الحرب على ما تبقّى، باستثناء رسوم ومخطوطات يستعدّ لعيبي لإصدارها في كتاب عن المدينة، يتوقّع أن يعنونه «البصرة: رسوم وكلمات»، في عمل أقرب إلى اليوميات التي تقارن المدينة مع غيرها، على أن يتضمّن ما يشبه الرحلة في عالم هذه المدينة الجمالي والإنساني والحكائي والتاريخي، ويتضمّن أيضاً بعض ما قاله في البصرة رحّالة عرب ورحّالة أوروبيون زاروا المدينة وأُخذوا بها وبتاريخها العريق.
    سألت الفنّان فيصل لعيبي:

    > ما الذي تتميّز به علاقتك بمدينة البصرة حيث وُلدت ونشأت، وكانت لك فيها علاقات مهمّة بفنّانين ومبدعين من أبنائها، ومنهم الشاعر الراحل بدر شاكر السيّاب؟
    < لكل منّا صورته الخاصة عن مدينته، وأحياناً تتحوّل الصورة الواحدة الى صور. فالمدينة موجودٌ متطوّر ونامٍ، متعدّد الوجوه والزوايا. أحياناً، تنمو للمدينة صور تختلف من شخص الى آخر، كل بحسب تجربته أو ظروفه، وقد نكتشف متأخّرين أنها بعيدة كل البعد عن حقيقة المدينة نفسها.
    البصرة عمل إبداعي ينمو وينتقل معي من مكان الى آخر، ومن زمن الى زمن، بضباب صباحاتها النديّة والرطبة، وبيوتها الجميلة على العشار، بزوارقها الأنيقة وساحاتها المليئة بالمتعبين والعشّاق والسكارى، بعمّالها الجالسين على الرصيف، يبيعون سواعدهم الفارغة، بشعرائها وفنّانيها الحالمين بدنيا عادلة، بالفارابي، بالنصر الشتوي، والنصر الصيفي، الأندلس، بسينماتها النظيفة، باستثناء سينما الحمراء العتيقة، بنواديها ومقاهيها الشعبية، بنهرها الخالد... شطّ العرب، بشرائعها الخلاّبة، وشخصياتها المدهشة، بنسائها الرائعات وبطيبتها... أسواقها التي تجلب البضائع من جزر الواق واق وغيرها من الآفاق، بصاغتها وصرّافيها، بحّارتها وفلاّحيها، برطبها الجني ونخلتها البهيّة ملكة الشجر، خليط مائها المتكوّن من دجلة الخير والفرات العسلي وكارون العذب وملح الخليج المليء بالمحار واللؤلؤ والردى، بجوامعها القديمة ومراقد الأولين، كقبور الزبير ابن العوّام ابن عمّة النبي (ص) وطلحة بن عبد الله (قتلا في معركة الجمل)، والحسن البصري سيد التابعين وحليمة السعديّة مرضعة النبي (ص) وابنها رضيع الرسول، وأبي بكر صاحب النبي (ص) ومحمد بن سيرين ومالك بن دينار وغيرهم. في البصرة أيضاً مقام الإمام علي بن ابي طالب ابن عم النبي (ص) وزوج ابنته.

    مدينة العلم والعلماء
    > نعرف أن البصرة مدينة خطّها أبو الحرباء عاصم بن دلف، وبنيت في عهد الخليفة عمر بن الخطاب سنة ١٤ هجرية (٦٣٤ ميلادية)، فهي، إذن، مدينة مستحدثة بعد الإسلام؟
    < هذا هو التاريخ الرسمي بطبيعة الحال. يقال إن أبا الحرباء أخذ موافقة الخليفة عمر والقائد سعد بن أبي وقّاص، وكان أول من ولّي عليها قطبة بن قتادة السدوسي، لكن المؤرّخين يذكرون أن البصرة الحالية بنيت في العام ٢٧٦ هجرية (٩٩٥ ميلادية)، وسميت بصيرة. أما الحقيقة، فإن البصرة كانت قائمة منذ زمن الأكاسرة، وما مدينة الأبلة إلا صدى لتلك التي بنيت في زمن الساسانيين، حيث كانت ميناء للتجارة وسوقاً معروفة قبل الإسلام، وهي تطوّرت بعد الفتح الإسلامي وازدهرت وأصبحت واحدة من أهم مدن الإسلام آنذاك، كما المدينة والكوفة ودمشق، وارتبطت بالهند والصين وأوروبا.
    في عهد المأمون تجاوز عدد الأساتذة والعلماء فيها ٧٠٠ عالم وأستاذ وفقيه وراوية، لكل منهم عشرات الطلبة والتلاميذ والأتباع، ألّفوا ما يقارب ٢٠٠ ألف مجلّد في الفقه والعلوم والأدب خلال ٢٠ سنة فقط من حياة المدينة الثريّة، إذ أمر المأمون بحملها إليه بثلاث سفن، حارماً بذلك أهلها من فرصة العلم والمعرفة.

    مدينة العلم
    > ما الذي جعل للبصرة هذه المكانة في استقطاب العلماء والنحويين والمفكّرين والمبدعين على اختلاف مجالاتهم؟
    < هناك موقع المدينة وانفتاحها على العالم من جهة، ومن جهة ثانية أنها حظيت باهتمام جعلها تحتوي على بعض أكبر مكتبات العالم الإسلامي. ففي البصرة تأسّست المكتبات العامة، وكانت تحتوي المجلّدات الثمينة التي دمّرها بعد ذلك الغزاة، وكانت مكتبة القاضي أبي الفرج تحتوي على ٥٠ ألف مجلّد نادر، وفيها استبدل العرب سوق عكاظ بالمربد الذي أصبح ما ندعوه اليوم بالمهرجان السنوي للثقافة والفنون، مثل مهرجان كان ومهرجان فينيسيا ومهرجان موسكو وغيرها من مدن العالم الحديث.
    كانت البصرة ولا تزال محطّ أطماع الحكام والأقوام المختلفة ومرّت بمصائب لا تحصى، ابتداء من معركة الجمل سنة ٣٦ هجرية، وانتهاء بحروب الخليج الثلاثة الأخيرة. فلا الأمويون رعوا لها حرمة ولا العباسيون. تلا ذلك الغزو الأجنبي من هولاكو إلى الفرس، من العثمانيين إلى الهولنديين والبرتغاليين والإنكليز، وأخيراً الجيوش المتعدّدة الجنسيات، وعلى رأسها الجيش الأميركي والأنظمة التي جاءت معه أو بعده، إضافة إلى الأمراض والفيضانات والكوارث الطبيعية والمجاعات، أو الحضارات وغزو الأعراب وبدو الجزيرة العربية لها غرباً وجنوباً، حتى أصبح خراب البصرة مثلاً يضرب في المصائب والكوارث الكبرى، فيقال في ذلك: «أبعد خراب البصرة؟»، والبقيّة تأتي...

    مسقط الرأس
    > نعرف أنك ولدت في هذه المدينة، لكن ليس كل أبناء المدن يعرفونها بعمق كما تعرف مدينتك، ويتشبّثون بها كما تتشبّث. تكاد تكون مأخوذاً بهذه المدينة أينما ذهبت، حتى أن شخصيات البصرة ومعالمها وملامحها محفورة في كل أعمالك الفنّيّة؟
    < صحيح، ولدت في قلب البصرة وفي منطقة العشار العريقة، وتحديداً في بريهة التي ذكرها ابن بطوطة. تلك المحلّة التي تجمع الأكراد بالعرب والفرس بالتركمان والبلوش بالهنود. نختلط بالأجانب من مختلف الأجناس وخصوصاً الأوروبيين، من دون تكلّف ولا حساسية أو شعور بالنقص، وإنما الند للند. كنا أول أهل العراق الذين تصدّوا لهم في بداية القرن العشرين والقرون السابقة، ولا يزال صدى معركة الشعيبة يرنّ في تلك البطاح، والاضراب الذي أعلنه عمّالها في الميناء في العام ١٩١٨ ضد الإنكليز والشركات الأجنبية الأخرى، يتردّد مع أمواج شط العرب.
    العجيب في هذه المدينة المنفتحة المتسامحة، أن لبقايا جند علي بن محمد من الزنوج أعياداً ولا كل الأعياد يتوسّطهم تومان الزنجي (شكوكو البصرة) الشهير الذي يخلب لبّ المراهقات بألعابه البهلوانية، فهو داعية شهير لبضاعته، ونديم لا يملّ لطرافته. ولو كان الملك فيصل الثاني يحب الندماء، لكان تومان النديم أولهم.
    وتومان لا يحب احتكاره، فهو داعية لسينما الرشيد صباحاً، معلناً عن فيلمها الجديد الذي يبدأ بالمعارك وينتهي بها، فلا يستطيع بطله (برت لانكستر) حتى من تقبيل حبيبته (إيڤون دي كارلو).
    وعند الظهر، يكون فيلم (لحن الخلود) المعروض في سينما الحمراء الجديدة، موضع دعاية تومان، وتكون دموعه أسخن من دموع ماجدة وفاتن حمامة، بينما يقلّد فريد الأطرش مغنّياً بأعلى صوته: «أنا غنّيت بإلهامك لحن الخلود»، ناهياً بذلك عذابات المحبّين الذين حبسوا عواطفهم وآلامهم كي لا تنفجر في هذا الجوّ الرومانتيكي المهيب.
    نراه مساء يتصدّر فريق عمال سينما الوطني، فاتحاً صدره للهواء العليل وهو ينادي على محبّي الفن الراقي: «ذهب مع الريح ولا يبقى غير وجه الكريم، كلارك كيبل في أروع أفلامه التي برز بها يوسف وهبي وأنور وجدي، ڤيڤان لي، أموت عليها، من ينتصر الظلام أم النور؟ إن الباطل كان زهوقاً..»، رابطاً جملاً وحكماً غير مترابطة في لغة لا يجيدها سواه، وهكذا يلف تومان أهل البصرة حوله، وعندما يتأكّد أن عدد الفتيات الجميلات أصبح كافياً، يسقط مغشيّاً عليه من الوله و«الغرام الفنّي» كما يحلو له تسميته، وهو في سقوطه هذا لا يفوّت فرصة «التكمّش» التي يجيدها، طالباً النجدة والمساعدة. يزاحمه أحياناً أحمد الوطن، صاحب السدارة والسترة العريضة، لكن أحمد الوطن ـ وهو لقب اكتسبه من عمله في سينما الوطني ـ لا يملك حيوية تومان ولا فنتازيته الغريبة، فأين هو من ملكات تومان التي لا تحصى؟! أذكر هذا الشخص الزنجي العجيب.. بل إن صورته لا تفارقني في غربتي عن العراق.

    البصرة الحديثة
    > نعرف أن البصرة كانت مدينة مفتوحة، لها ميناء نشط عبر التاريخ، وكل من غادر العراق إلى الهند أو الخليج العربي، وحتى بلاد فارس، غادره عبر ميناء البصرة.. كيف تنظر إلى هذا الموقع في مكانة هذه المدينة؟
    < هذا صحيح، فالميناء يشكّل منفذاً عظيماً للعراق، لكن ما يصنع مكانة البصرة ليس الميناء وحده، فهناك سكك الحديد ومحطّتها الكبرى، وشركة نفط البصرة، كل ذلك شكّل الوعي السياسي والاجتماعي للمدينة.
    نادى أهل البصرة بالنظام الجمهوري منذ بداية القرن الماضي، مع أن بعضهم حاول الانفصال وتشكيل دولة خاصة بالبصريين، لكن أهلها الذين ينحدرون من سومر واكد وبابل، عارضوا هذه الفتنة ودفنوها في مهدها.
    كان فيها أكثر من ٤٦٨ نهراً على الجهة الغربية، و١٦٥ نهراً على الجهة الشرقية، ولا تزال آثار هذه الأنهر موجودة، ولا تحتاج إلا الى الأيدي الأمينة لإحيائها.
    سُميت المدينة حتى عهد قريب: بندقية الشرق (فينيسيا الشرق). أما التمور، فحدّث ولا حرج، فهي تحتوي على ٣٣٥ نوعاً من التمور النادرة، وكانت البصرة قبل نصف قرن فقط تحتضن وحدها ٢٦ مليون نخلة، أما اليوم فلا يوجد في كل العراق أكثر من ٩ ملايين نخلة. وقد حكمها أكثر من ٣٢٧ عاملاً وحاكماً أو والياً ومتصرّفاً أو محافظاً منذ تولّى المسلمون حكمها حتى أيامنا هذه.
    ولا بد من أن أذكر هنا أن البصرة كان لها أعياد مهمّة، لكن أهم أعيادها هو عيد نوروز، الذي نطلق عليه اسم الكسلة، إذ يمتلئ شطّ العرب بالزوارق وتختلط الأجناس المختلفة ببعضها كعائلة واحدة، يتبادلون القبل والتحيّات والمأكل والمشرب، وأحياناً كثيرة يلقون بأنفسهم في خضم النهر العظيم، فتطفو الأجساد السكرانة من المحبّة والنشوة والفرح.

    المتحف الأول
    > لا بد لكل فنّان من مصادر أولى قادته إلى الفن وساهمت في الكشف عن موهبته. أين تكمن مصادر إلهامك الفنّي في هذه المدينة وأين متحفك الأول؟
    < كان متحفي الأول في البصرة، هو الصف الأول الابتدائي الذي زيّنه الأستاذ خلف الأعرج كما كنّا نسمّيه، لعاهة في رجله اليسرى، وهو أدهشني بمقدرته الفنّيّة الراقية. أعتبره من الجنود المجهولين في عالمنا القاسي. لا أزال أذكر أيضاً، أغاني الفنّان طالب غالي في نادي الاتحاد الرياضي، الذي كان يقيم حفلة أسبوعية لجماهير البصرة بعد ثورة ١٤ تموز (يوليو)، وكذلك الفنّان حميد البصري الذي كان يزورنا في البيت ويدرّس أخي على العود. كان معلّمي الأول، علّمنا الأغاني الجميلة والألحان الخالدة لعبد الوهاب وأم كلثوم وغيرهما من النوابغ.

    أمّ البروم
    > أي معالم في البصرة كانت أكثر تأثيراً فيك وفي جيلك الفنّي والأدبي؟
    < ساحة أمّ البروم، تلك التي تغنّى بها السيّاب. بارات العرق الى يسارك وأنت تدخل السوق، خصوصاً بار «الوردة البيضاء»، وبائع الشوربة الذي كنا نشاركه الأحاديث والمقالب والطرف. كل ذلك لا يزال في ذاكرتي... كانت الساحة سوقاً للبضائع القادمة من الكويت، والدلاّلون في حركة دائمة والأسعار تصعد وتنزل بحسب العرض والطلب. فجأة، يخرج من أحد البارات مطروداً سكّير لم يسعفه الحظ في تدبير ثمن ربعيّة، فيتزحلق بطين شوارع أيام ماطرة وباردة، تشيّعه أصوات المارة والباعة: «سكران بالك عنه فلوس العرق مو مّنه»، فيلعن الماء والقدر، كصيّاد السيّاب الحزين في أنشودة المطر.
    كانت حياتي في تلك المرحلة من الغنى والتنوّع والبهجة ما تحسدني عليه سائر الشخصيات التي عرفتها في الكتب والقصص أو الروايات، مغامر جريء وصاحب نزهات في بساتين البصرة الشبيهة بالجنّة. كان الصديق الشاعر مهدي محمد علي، على حق بتسمية كتابه عن البصرة بـ«جنّة البستان». هي فعلاً جنّة البستان الذي تغنّى به الفنّانون حميد البصري، فؤاد سالم، طالب غالي، إضافة إلى رضا علي، أشهر مغنّي بغداد في الخمسينيات والستينيات في أغنيته «مركب هوانه من البصرة جانه» والتي أعادتها المطربة مائدة نزهت بعده. أما حضيري أبو عزيز، فلا تزال أغنيته «أحيا وأموت عالبصرة، أم التمر والخضرة» تتردّد في تلك الأجواء، وفرقة الانشاد لا تزال مع الجالغي البغدادي تكرّر بستة «واقف على العشار يقرا بجريدة ويمشط تواليت حسباله أريده» تقول التوراة إن جنة عدن تقع عند ملتقى دجلة والفرات، ولا تزال هناك شجرة يطلق عليها اسم «شجرة آدم»، محاطة بسور حديدي لصيانتها من عاديات الدهر والشيطان الرجيم.

    المزاج المرح
    > لا يستطيع المرء أن يسأل ابن مدينة عنها وعن أهلها، إلا ويكون فخوراً بها وبهم، لكن هل صحيح ما يشاع عن المزاج المرح، والمميّز في طرافته لأهل البصرة عن سائر العراقيين؟
    < صحيح جداً، فأهل البصرة أناس مرحون بطبعهم، تستهويهم الطرف والملاحة والنصبات الأخوية، يكثرون من التوابل في طعامهم ويتناولون السمك البحري والنهري على أنواعه، لهم أماكن لهو خاصة، وتعتبر بساتين أبي الخصيب أشهر أماكن الترفيه والمتعة البريئة عند أهل البصرة، يضاف إليها غابات الأثل التي تعتبر مقرّ حفلاتهم الصاخبة ونزهاتهم الربيعية الجميلة.
    ويعتبر شارع الكورنيش أهم شارع للمحبّين والعشّاق وأهل الهوى والغرام، حيث تنتهي جولتهم في حديقة الأمّة، وعلى مقاعدها يتبادل المحبّون الأشواق ويشرح كل حبيب لحبيبه آلامه. ويحب أهل البصرة الورد الجوري كثيراً، وهو مزروع بكثافة ملحوظة. وبسبب حرارة الجو ورطوبته، فإن أهل البصرة أكثر أهل العراق حبّاً للملابس الخفيفة والقصيرة الخاصة بالنساء، وربما أكثرهم انفتاحاً وتسامحاً في هذا الأمر. لسوق الهنود في البصرة كما يطلق عليه، ميزة خاصة، فهو السوق الرئيسي لأهل البصرة، إذ يتبضّع البصريون وغيرهم من أبناء العراق الزائرين ما يحتاجونه من سلع وحاجات، وفيه المكتبات المهمّة والمحالّ التجارية المختلفة، والمخازن والمقاهي والمطاعم التي تقع عادة في الشوارع الفرعية، يكثر في هذا السوق باعة التوابل من الهنود والباكستانيين وغيرهم من أصحاب المحالّ المشابهة.

    أبو نهضة البصرة
    > تحدّثت عن خراب البصرة. ولكن من أكثر من آذى البصرة وخرّب فيها في القرن العشرين، على وجه التحديد؟
    < إنه الحيّاني، محافظ المدينة في عهد عبد السلام عارف بالبصرة، هدم شناشيلها الجميلة والمطاعم والمقاهي المطلة على نهر العشار، ليفتح شارعاً باسمه. أزيلت ساعة سورين التي أخذت اسمها من مصوّر شمسي أرمني، كان يجلس تحتها، إذ كانت كديك الصبح لنا أو صوت المؤذّن للمصلّين، وهي تشبه ساعة القشلة في بغداد وبغ بن في لندن، وغاب فندق الميناء الذي كان مقرّاً للحاكم البريطاني في بداية الاحتلال كما قيل، وضاع تراث جميل يعود معظمه الى الفترة العثمانية المتأخّرة، وفقدت أبينة أثرية لا تعوّض. أما حروب النظام العراقي السابق، الذي لا يشبه الملكي ولا الجمهوري ولا حتى القرقوشي، فقد أتت على ما تبقّى من بصرتي الأولى، ولا أعلم إن كنت سأجد فيها موقعاً عندي له ذكرى أو حدث، لو عدت إليها اليوم؟! ما يقال فيها الآن هو أنها فقدت بريقها ورونقها السابق، وأصبحت مثل المدن المقفرة التي نشاهدها في أفلام رعاة البقر، حيث تدور فيها الرياح وتتدحرج الأشياء من دون هدف ويخيّم عليها الصمت المريب والدم والدمار.
    نحتاج الى شخص مثل الراحل سليمان فيضي، الشخصية الوطنية العراقية الشهيرة، أتمنّى أن يطول العمر بي لأعمل له تمثالاً وسط أمّ البروم أو على الكورنيش، عرفاناً لجهوده التي بذلها لتأخذ البصرة موقعها اللائق بها في عراقنا الحديث. هو من أسس في العام ١٩٠٩ الجريدة الأولى الناطقة بالعربية في المدينة، حملت اسم «الايقاظ»، والمدرسة الأولى للبنات ومدرسة للأولاد، والمركز الأول للأيتام، والدار الأولى للعجزة. هو أول من دعا إلى بناء مستشفى فيها وتبرّع لها، وأول من كتب رواية عراقية عرفها القرن العشرون (الرواية الايقاظية)، وأوّل من أسّس مكتبة عامة للجمهور، ووضع المشاريع الاروائية لها لحمايتها من الفيضانات المتكرّرة، وكان شعاره الأثير (اليقظة)، فسمّى كل مشاريعه بهذا العنوان النهضوي الطموح.

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 21, 2024 8:50 am